لقد كنتُ من الذين طالبوا المعارضة بمراجعة مواقفها، كما طالبت كتلة نواب الأغلبية الرافضة لمبادرة التمديد أن تعبر عن نفسها. لقد طالبتُ بذلك لأن مواقف المعارضة من بعد الإعلان عن نتائج الانتخابات الرئاسية لم تكن بالنسبة لي بالمواقف الناضجة سياسيا، ونفس الشيء يمكن أن يُقال عن الكتلة البرلمانية الرافضة للتمديد، فصمتُ تلك الكتلة من بعد التنصيب لم يكن سليما ولا موفقا، وخاصة من بعد أن ارتفعت أصوات ما أسميته في مقال سابق بتيار التشويش داخل الأغلبية الرئاسية.
عن صحوة المعارضة
بداية هذه الصحوة جاءت مع مخرجات الدورة العادية للمكتب التنفيذي لحزب اتحاد قوى التقدم، والتي كانت قد انعقدت أيام: 16 و17 و18 و19 أغسطس 2019، والتي كان من نتائجها المطالبة بتدقيق شامل وبتحقيقات جادة حول فضائح الفساد وسوء التسيير، وتعززت هذه الصحوة مع بيان اللجنة الدائمة لحزب تكتل القوى الديمقراطية الصادر يوم 1 سبتمبر 2019 ، والذي طالب بالتدقيق في وضعية كافة المرافق الاقتصادية للدولة، والتحقيق في ظروف منح العقود والاتفاقيات الكبرى خلال العشرية الماضية، وكذلك التحقيق في الظروف التي أدت إلى تصفية بعض المؤسسات العامة، ونشر نتائج تلك التحقيقات، واستخلاص كل التبعات القانونية منها.
هذه الصحوة تجلت بشكل أوضح من خلال إعلان ائتلاف قوى التغيير الديمقراطي عن ندوة سينظمها يوم 4 سبتمبر 2019 في أحد فنادق العاصمة، وستكون تحت عنوان "تسيير البلد من طرف محمد ولد عبد العزيز : المٌطالبة بإجراء تحقيق".
يلاحظ من كل ما سبق بأن المعارضة الموريتانية قد بدأت تعيد توجيه بوصلتها، وبأنها بدأت تنتقل من مرحلة التشكيك في فوز الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني إلى مرحلة مطالبته بإجراء تحقيق شامل في فترة حكم الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز، ولا شك بأن هذا التحول سيربك أي محاولة للالتفاف على مبدأ التناوب السلمي على السلطة، إن كان هناك من يفكر في ذلك.
إني من الذين يروا بأنه على المعارضة أن تسير في هذا الاتجاه مادامت هناك شكوك بأن الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز ما يزال يفكر في لعب أدوار سياسية في المرحلة القادمة، أما إذا قبل بصفة رئيس سابق، وابتعد نهائيا عن التدخل في الشأن السياسي، فحينها سيكون على المعارضة أن تركز على تسيير الحكومة الحالية، وأن تراقب أخطاءها، وأن تكشف للرأي العام عن تلك الأخطاء، وأن تضغط من أجل تصحيحها.
عن صحوة الكتلة البرلمانية الرافضة للتمديد
ليس من السليم ولا من النضج السياسي أن يتصرف أي داعم مخلص للرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني أي تصرف من شأنه أن يثير الخلاف في صفوف أغلبيته الداعمة. وتقتضي الحكمة السياسية أن يبتعد كل داعمي الرئيس غزواني عن جدلية (الاستمرار في النهج ـ القطيعة)، والتي كان يجب أن تطوى صفحتها مع الحملة الانتخابية، لتبدأ صفحة جديدة بعد التنصيب قائمة على أساس أن هناك أغلبية داعمة للرئيس غزواني تضم موالاة الرئيس السابق، وتضم أيضا جزءا من معارضته، وبالتالي فهي لا تتفق على استمرار النهج، كما أنها بكل تأكيد لا تتفق على القطيعة مع النهج . إنها تتفق فقط على برنامج غزواني وعلى تعهداته، وعلى أهمية تنفيذ ذلك البرنامج. إن العمل على تنفيذ ذلك البرنامج هو ما يوحدها وهو ما يضمن تماسكها، أما إعادة النقاش حول جدلية (الاستمرار في النهج ـ القطيعة)، فلن يؤدي إلا لزرع المزيد من الخلاف داخل تلك الأغلبية غير المتجانسة أصلا.
ومما يثير الشكوك هو أن هناك من سارع بعد التنصيب إلى إعادة الجدل حول هذه القضية الخلافية، ومما يثير الشكوك أكثر هو أن الناطق الرسمي باسم الحكومة كان هو أول من أعاد الجدل حول هذه القضية الخلافية، وذلك بتصريحه غير الموفق في أول مؤتمر صحفي له، وتبعه في ذلك نائب رئيس الجمعية الوطنية، وليتبعهما من بعد ذلك آخرون، وهو الشيء الذي جعلني أتحدث في مقالات سابقة عن وجود حملة تشويش منظمة ضد الرئيس غزواني وحكومته. بعد كل تلك التصريحات المشوشة لم يعد من الجائز أن تستمر كتلة النواب التي رفضت التمديد في صمتها، ولم يعد من الحكمة أن تترك الساحة لطائفة واحدة من الداعمين تصرح بما يشوش على الرئيس الذي تدعي دعمه.
كان لابد أن يأتي تصريح من أحد نواب هذه الكتلة البرلمانية، والتي أرى بأنها تمتلك الشرعية الأخلاقية والسياسية لأن تشكل نواة لكل الداعمين الصادقين للرئيس غزواني داخل الأغلبية بصفة عامة، وداخل حزب الاتحاد من أجل الجمهورية بصفة خاصة. جاء التصريح على لسان النائب لمرابط ولد بناهي خلال مقابلة أجرتها معه وكالة الأخبار المستقلة، وقد كان التصريح في غاية النضج السياسي. وإذا كان من مأخذ على هذا التصريح فهو أن النائب كان يعبر عن رأي شخصي كما جاء في المقابلة، ولذا فقد كان من الأفضل أن يأتي هذا التصريح على لسان نائب واد الناقة، والذي تم اختياره في وقت سابق ناطقا رسميا باسم كتلة النواب الرافضة للتعديلات الدستورية، فمثل ذلك كان سيعطي الانطباع بأن هذه الكتلة لا تزال متماسكة، ثم إن تصريح نائب واد الناقة كان سيبعد أي "شبهة جهوية" قد يحاول البعض أن يلصقها بالتصريح البالغ الأهمية الذي جاء على لسان النائب لمرابط ولد بناهي.
عموما ستكون هناك محطات قادمة سيكون بإمكاننا أن نكتشف من خلالها مدى تماسك هذه الكتلة، وستكون المحطة الأولى مع تجديد هيئات الجمعية الوطنية خلال شهر أكتوبر القادم، أما المحطة الثانية فستكون من خلال مؤتمر حزب الاتحاد من أجل الجمهورية المنتظر في شهر نوفمبر القادم.
هل قرر الرئيس السابق أن يفرط في أهم ورقة لديه؟
في اعتقادي الشخصي بأن أهم ورقة يمتلكها الآن الرئيس السابق هي تلك الورقة المتعلقة بعمق صداقته بالرئيس الحالي، وبالثقة العالية التي تجمع بينهما، ولذا فإنه ليس مصلحة الرئيس السابق القيام بأي فعل يمكنه أن يهز تلك الثقة، ولا شك أن تلك الثقة ستهتز مع كل فعل أو تصرف يقوم به الرئيس السابق قد يفهم منه بأنه محاولة للتأثير على مجريات الأمور
محمالحالية.
حتى الآن لم يكشف علنا بأن هناك محاولة ما من الرئيس السابق للتأثير على مجريات الأمور، هذا إذا ما استثنينا رسالة قيل بأنه بعثها إلى حزب الاتحاد من أجل الجمهورية عن طريق وزير الطاقة وهو القائم حاليا بأعمال الأمين العام للحزب. وإذا كان لم يكشف ـ على الأقل إعلاميا ـ عن أي محاولة للرئيس السابق للتأثر على مجريات الأمور، إلا أن المشكلة تكمن فيما يقوم به بعض المحسوبين عليه من محاولات للتشويش على النظام الحالي، وهم بتلك المحاولات سيضرونه أكثر من نفعه، وذلك لأنهم بتصرفاتهم تلك سيزرعون الشكوك ويخلقون أجواء من عدم الثقة بين الرئيس الحالي والرئيس السابق، وسيكون المتضرر الأول هو الرئيس السابق الذي سيكون مكشوف الظهر أمام خصومه الكثر.
إن الثقة التي تجمع بين الرئيسين السابق والحالي لا يمكن أن تستمر إلا إذا قبل الرئيس السابق بأن يكتفي بصفة رئيس سابق، وأن يبتعد تماما عن محاولة التأثير في مجريات الأمور، وأن يقتنع وبشكل نهائي، بأن البلاد لا يمكن أن يحكمها إلا رئيس واحد وواحد فقط.
حفظ الله موريتانيا...